المَرْفُوعَاتُ بَيْنَ ابنِ يَعِيشَ وَالأَستَرَابَاذِيِّ
هَذَا الكِتَابُ تَتَبَّعْتُ فِيهِ آرَاءَ شَارِحَيْنِ جَلِيلَيْنِ مِنْ شُرَّاحِ كُتُبِ النَّحْوِ القَيِّمَةِ ؛ وَهُمَا ابنُ يَعِيشَ في شَرْحِهِ للمُفَصَّلِ ، وَالأَسْتَرَابَاذِيُّ في شَرْحِهِ للَكَافِيةِ ، وَذَلِكَ في مُوَازَنَةٍ نَحْويَّةٍ بَيْنَ آرَائِهِمَا ، مِنْ حَيْثُ مَوَاضِعُ الاتِّفَاقِ وَمَوَاضِعُ الاخْتِلافِ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ ألْقَيْتُ بَعْضَ الضَّوْءِ عَلَي آرَائِهِمَا القَيِّمَةِ بَعِيدًا عَنِ الاسْتِطْرَادِ ، وَتجنَّبْتُ شَرْحَ مَعَانِي الأَبْيَاتِ الوَارِدَةِ في ثَنَايَا البَحْثِ دَفعًا للإِطَالَةِ أَوْتَشَتُّتِ ذِهْنِ القَارِئِ عَنِ النَّظَرِ في الدَّرْسِ النَّحْوِيِّ ؛ وَرَغِبْتُ في عَرْضِ الآرَاءِ بِمَا يُبْرِزُهَا ، وَيَجْعَلُهَا أَكْثَرَ وُضُوحًا.
وَحَاوَلْتُ تَوْضِيحَ أَثَرَ الشَّارِحَينِ في الدَّرْسِ النَّحْوِيِّ ، وَبَيَّنْتُ إِغْفَالَهُمَا لِبَعْضِ مَا وَرَدَ في مَتْنِ الكِتَابِ الذِي شَرَحَهُ الشَّارِحُ لِمُخَالَفَتِهِ الرَّأْي ، أَوْ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ في مَتْنِ الكِتَابِ ، وَمَدَى التِزَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّارِحَينِ بِمَتْنِ الكِتَاِبِ ، وَبيَّنْتُ مِنَ المُوَازَنَةِ ظُهُورَ آرَاءِ جَدِيدَةِ للشَّارِحَينِ خَالَفَا فِيهَا مَنْ سَبقَهُمَا مِنَ النُّحَاةِ عَلَى نَحْوِ مَا تَبيَّنَ في مَوْضِعِهِ ، وَقَدْ قَسَّمْتُ البَحْثَ ثَلاَثَةَ فُصُولٍ :
الفَصْلُ الأَوَّلُ : عَرَضْتُ فِيهِ للمُبْتَدَأ وَالخَبَرِ ، وَلآرَاءِ النُّحَاةِ في مَعْنَى الابْتِدَاءِ ، وَبَيَّنْتُ مَوَاضِعَ الاتِّفَاقِ وَالاخْتِلاَفِ بَيْنَ الشَّارِحَينِ في المُبْتَدَأ ، وَرَأْيَ أَئِمَّةِ النَّحْوِ في عَامِلِ الرَّفْعِ في المُبْتَدَأ ، وَحَصَرْتُ نِقَاطَ الاتِّفَاقِ وَالاخْتِلاَفِ بَيْنَهُمَا في المُبْتَدَأ ، وَعَامِلِ الرَّفْعِ فيهِ ، وَعَرَضْتُ لآرَاءِ القُدَمَاءِ وَالمُحْدَثِينَ وَالاخْتِلاَفَ بَيْنَهُمَا في تَعْرِيفِ المُبْتَدَأ ، وَفي مُسَوِّغَاتِ الابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ ، تَفَرُّدَ كلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا برأيٍّ ، وَحَصَرْتُ مَوَاضِعَ الاتِّفَاقِ وَالاخْتِلافِ بَيْنَهُمَا في الخَبَر ، إِذْ بَيَّنتُ أَنَّ النُّحَاةَ شُغِلُوا قَدِيمًا بِالبَحْثِ في قَضِيَّةِ الأَصْلِ وَالفَرْعِ لبَعْضِ التَّرَاكِيبِ وَالاسْتِعْمَالاتِ في اللغَةِ ، وَتَعَدَّدَتْ الآرَاءُ في قَضِيَّةِ الأَصْلِ في جُمْلَةِ خَبَرِ المُبْتَدَأ .
وَأَرَى َأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ النُّحَاةَ لِمُنَاقَشَةِ هَذِهِ القَضِيةَّ ِإِلاَّ وُجُودُ بَعْضِ التَّرَاكِيبِ التي اعْتَرَضَتْ طَرِيقَ تَقْعِيدِ هِمْ للغَةِ ؛ لاخْتِلافِهَا عَنِ النَّمَطِ المَأْلُوفِ في التَّرَاكِيبِ العَرَبِيَّةِ، وَأَنَّ قَضِيَّةَ الأَصْلِ وَالفَرْعِ في جُمْلَةِ خَبَرِ المُبْتَدَأ ، لاتُغَيِّرُ مِنَ الأَمْرِ شَيْئًا ؛ إِذْ إِنَّ القَوْلَ بِأَنَّ الأَصْلَ في الخَبَرِ الإِفْرَادُ ، أوْ الجُمْلَةُ ؛ إِنَّما هُوَ قَوْلٌ لاأَسَاسَ لَهُ مِنَ الصِّحَّةِ لِعَدَمِ وُجُودِ دَلِيلٌ عَلَيهِ ، وَإِنَّما يَكُونُ تَقْدِيرُهُ مِنْ خِلالِ السِّيَاقِ .
الفَصْلُ الثَّانِي : نَوَاسِخُ المُبْتَدَأ : ( كَانَ وأخواتها ) و(أَفعَالُ المُقَارَبَةِ وَالرَّجَاءِ وَالشُّرُوعِ) وَ( إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا)
بَيَّنْتُ عَرْضَ الشَّارِحَينِ للأَفْعَالِ الناسِخَةِ النَّاقِصَةِ ( كَانَ وَأخَوَاتُهَا ) وَوُجُود نِقَاطِ اتِّفَاقٍ في أَنَّها ثَلاثَةَ عَشَرَ فِعْلاً مَشْهُورًا لا خِلافَ فِيهَا ، وَاخْتِلافَهما في عَدَدِ الأَفْعَالِ التي تُلْحَقُ بِالأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ ، وَأََرَى أنَّ التَّوَسُّعَ في الأَفْعَالِ الناسِخَةِ يَجَعَلَ كُلَّ فِعْلٍ يُظَنُّ أَنَّهُ يُسْتَغْنَى عَنِ الخَبَرِ دَاخِلاً في الأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ ، وَهَذَا القول لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ الأَخْذُ بِهِ ؛ لأَنَّهُ يَفْتَحُ البَابَ لِكُلِّ مَعْنًى يَسْهُلُ إِخْضَاعُهُ للتَأْوِيلِ عَلَى أَنَّ المَرْفُوعَ اسْمُهُ وَالمَنْصُوبَ خَبَرُهُ ، وَبَيَّنْتُ أَنَّ الأَنْسَبَ أَنْ نُخَصِّصَ التَّرَاكِيبَ التي وَرَدَ فِيهَا مَا يَحْتَمِلُ التَأْوِيلَ بِالتَّامِ وَالنَّاقِصِ ؛ فَتَكُونُ هَذِهِ سَمَاعِيَّةً لا قِيَاسِيَّةً ، وَتُلْحَقُ بِالأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ مِنْ هَذَا الوَجْهِ ، وَتَكُونُ دِرَاسَةُ هَذِهِ التَّرَاكِيبِ ، لِبَيَانِ وَفَهْمِ مَا وَرَدَ مَرْوِيًّا عَلَى غَيْرِ النَّسَقِ.
* أَفْعَالُ المُقَارَبَةِ ، وَالرَّجَاءِ ، وَالشُّرُوعِ : حَصَرْتُ اتِّفَاقَهُمَا في مَوَاضِعَ وَاخْتِلافَهُمَا ، وَسُمِّيَتْ بِأَفْعَالِ المُقَارَبَةِ تَغْلِيبًا لأَفْعَالِ المُقَارَبَةِ ، وَخَبَرَهَا لا يَكُونُ إِلاَّ فِعْلاً مُضَارِعًا ، وَقَدْ يَكُونُ مُقْتَرَنًا بِأَنْ في أَخْبَارِ بَعْضِِهَا وَمُجَرَّدًا مِنْهَا في بَعْضِهَا الآخَرِ ، وَيَنْدُرُ مَجِيءُ خَبَرِهَا مُفْرَدًا أَوْ جُمْلَةً اسْمِيَّةَ ، وَبَيَّنْتُ أَنَّهُ لايَنْبَغِي أَنْ نُقَعِّدَ للغَةِ مِنَ الأَبْيَاتِ المُفْرَدَةِ ، وَإِنَّمَا تُحْفَظُ لِفَهْمِ المَسْمُوعِ الوَارِدُ في الكَلامِ العَرَبِيِّ القَدِيمِ دُوْنَ مُحَاكَاتِهِ ، وَبيَّنْتُ أَنَّ حَدِيثَ النَّحْويِّ عَن أَيْ أَصْلٍ يَفْتَرِضُهُ ؛ لابُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلى شَاهِدٍ مِنْ القُرآنِ الكَريِمِ ، أَوْ كَلامِ العَرَبِ ، وَأنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مُطَّرَدًا في اللغَةِ .
وَعَرَضْتُ لرَأي الشَّارِحَينِ في خَبَرِ ( إِنَّ وَأَخَوَاتُهَا ) ، وَلِمَوَاضِعِ اتِّفَاقِهِمَا وَمَوَاضِعِ اختِلَافِهِمَا، وَلمُسَوِّغِ للحَذْفِ عندَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَخَبَر ( لا ) النَّافِيَةِ .
* الفَصْلُ الثَّالِثُ عَرَضْتُ فِيهِ لِمَرفُوعَاتٍ أُخرَى مِنْهَا ؛ الفَاعلُ ، فَحَصَرْتُ مَوَاضِعَ الاتِّفَاقِ ، والاخْتِلَافِ ، وَنَاقَشْتُ المَوَاضِعَ التي يَجِبُ فِيهَا التِزَامُ الأَصْلَ ، وَالمَوَاضعَ التي انفَرَدَ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍّ مِنْهُمَا وَالاخْتِلافِ حَوْلَ حَذْفِ الفِعْلِ الرَّافِعِ للفَاعِلِ المَذْكُورِ ، لِوُجُودِ قَرِينَةٍ ، وَأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ إدِرْاَكُ المَعْنى بِلا تَأْوِيلٍ ؛ فإَنِّهُ يُمْكِنُ الاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ ، وَهُمَا يَتَّفِقَانِ في اصْطِلاحِ " مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ " ( نَائِبُ الفَاعِلِ ) وَإِنْ اخْتَلَفَا في طَرِيقَةِ تَنَاوُلِهِ .
وَأَوْصِيْتُ بِضَرُورَةِ إِبْرَازِ الأَغْرَاضِ في الدَّرسِ النَّحْويِّ وَعَدَمِ فَصْلِهَا في كُتُبِ البَلاَغَةِ ، وَبَيَّنْتُ مَوَاضِعَ الاخْتِلاَفِ بينَهُمَا ، وَأَنَّهُ يِنْبَغِي حِفْظِ الرُّتْبَةِ بَأَنْ يَلْزَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ المَفْعُولينِ مَوْضِعَهُ إِذَا كَانَ الفِعْلُ مُتَعَدِّيًا لِمَفْعُولَينِ لَيْسَ أَصْلُهُمَا المُبْتَدَأ وَالخَبَرُ ، وَإِذَا خِيفَ اللَبْسُ ، فَالأَوْلَى نِيَابَةُ المَفْعُولِ الأَوَّلُ ، وَلا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ اللَبْسِ تَقْدِيمِ الثَّاني عَلَى الأَوَّلِ ، أَوالثَّالِثُ عَلَيهِمَا ؛ لأَنَّهُ لَوْنٌ مِنَ القِيَاسِ العَقْلِيِّ لِعَدَمِ وُجُودِ شَوَاهِدِ لَهُ في اللسَّانِ العَرَبِيِّ إِذْ لَيْسَ كُلُّ قِيَاسٍ يَكُونُ باِلضَّرُورَةِ مُفِيدًا ، فَالقَوَاعِدُ الكُلِّيَةُ للغَةِ لاتُثْبَتُ بِالاحْتِمَالاتِ ، وَعَرَضْتُ لجَوَازِ إِسْنَادِ الفِعْلِ إِلى المَفْعُولِ المُطْلَقِ، وَإِقَامَتِهِ مَقَامَ الفَاعِلِ، وَاخْتِلافِهما في عِدَّةِ مسَائِلَ في إِسْنَادِ الفِعْلِ ؛ لأَنَّهُ يُحَقِّقُ لَهُ الفَائِدَةَ .
وَبَيَّنْتُ أَنَّ الشَّارِحَينِ لَمْ يَتَنَاولا الجُمْلَةَ بِشَكْلٍ مُسْتَقِلٍّ ؛ وَإِنَّما كَانَ عَرْضُهُمَا لَهَا مِنْ خِلالِ الحَاجَةِ إِليهَا في أَبْوَابِ النَّحْوِ ، فَجَمَعْتُهَا لتَتَحَقَّقَ فَائِدَةُ الإِلْمَامِ بِهَا ، وَأَنَّ تَأْوِيلَ الأَسْتَرَابَاذِيِّ لِقِيَامِ الجُمْلَةِ مَقَامَ الفَاعِلِ تُؤَوَّلُ بِالمُفْرَدِ ؛ لأَنَّهُ رَأْى أَنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ صَحِيحَةٌ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْ الفَاعِلَ مُسْتَوْفِيًا للقَوَاعِدِ .
وَبيَّنتُ إِلى أَنَّ التَّرَاكِيبَ التِي جَاءَتْ عَلَى غَيْرِ النَّمَطِ المُطَّرَدِ في العَرَبِيَّة ؛ إِنَّما تَأْتِى لغَرَضٍ بَلاغِيِّ ؛ لذَا فَإِنَّهُ يَجِبُ أَلا تُفَسَّرَ إِلاَّ مِنْ خِلاَلِ السِّيَاقِ الذِي وُجِدَتْ فِيهِ ؛ وَلذَلِكَ لابُدَّ مِنْ فَهْمِ السِّيَاقِ الذِي تَرْدُ فِيهِ
وَعَرَضْتُ لرَأْي الشَّارِحَينِ في " الفِعْلِ المُضَارِعِ المَرْفُوعِ " وَعَامِلِ الرَّفْعِ فِيهِ ، وَتَنَاوَلْتُ قَضَايَا لَمْ يَعْرِضْ لَهَا الشَّارِحَانِ ، وَفي ثَنَايَا البَحْثِ نَتَائِجُ أُخْرَى يُمْكِنُ تَلَمُّسُهَا .
وَبَعْدَ …فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ قَدْ أَلْقَيْتُ بَعْضَ الضَّوْءِ عَلَى فِكْرَ ، وَعَمَلِ هَذَيْنِ العَالِمَيْنِ الجَلِيلَينِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ قَدْ وُفِقْتُ في هَذَا ، فَإِنْ كَانَتِ الأُخْرَى ، فَحَسْبِي أَنَّنِي قَدْ حَاوَلْتُ ، وَاللهُ حَسْبِي ، وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ،،،