تامر إبراهيم العسكري
مدرس التاريخ الحديث والمعاصر المساعد
كلية الآداب جامعة كفر الشيخ
متخصص في تاريخ الحجر الصحي في مصر
الحجر الصحي: هو المنع من دخول أرض الوباء أو الخروج منها منعا لأنتشار العدوى بالأمراض الوبائية مثل الطاعون والكوليرا وغيرهم، ونشأ الحجر الصحي في أوروبا في جمهورية فينسيا (البندقية) في القرن الرابع عشر الميلادي الثامن الهجري، وفي مطلع القرن الخامس عشر أنشئ الحجر الصحي في البحر الأدرياتيكي، وسمي لازاريت في جزيرة تسمى "سانت ماري"، وكان يتم الحجز فيها على البضائع والأشخاص القادمين على بلادها من الشرق، ومنذ ذلك التاريخ بدأت المحاجر الصحية في الانتشار.
وقد اهتم الفرنسيون مع بداية احتلالهم لمصر بإنشاء المحاجر الصحية أو المعازل " Lazarets " فبدأ بونابرت عقب وصوله للإسكندرية بإصدار أوامره بإنشاء أول محجر صحي بها لمراقبة الوافدين عبر البحر إلى البلاد بعد ما سمع عن انتشار وباء الطاعون بين حين والآخر في أرجاء مصر، ثم أصدر أوامره بإنشاء أول إدارة صحية عرفتها مصر في تاريخها الحديث، وعهد إليها تنفيذ القواعد والتنظيمات الصحية المعمول بها في فرنسا، ووضع على رأس هذه الإدارة شخص يدعى بلانك Blanc وتقلد منصب( مدير مهمات المحاجر الصحية (Lordonnateur des Lazzrets). وأنشأ الفرنسيون مقرًا لأول محجر صحي (كورنتينة) على المرتفع الواقع جنوب شرق المدينة وداخل نطاق أسوارها من شاطئ البحر جنوب السلسلة بالإسكندرية.
وعندما تولى محمد على باشا حكم مصر عام 1805 أصبحت العناية بالصحة العامة من أهم أولوياته لا سيما في بلد كثرت فيه الأمراض والأوبئة، وقد شكلت هذه الأمراض الوبائية عائق أمام أفكار ومشروعات محمد على لتحديث مصر، حيث أزهق الطاعون والكوليرا أرواح آلالاف من الضحايا، وأثار ذلك انتباهه إلى خطر ضياع الموارد البشرية مما جعله يفكر في تطبيق نظام الحجر الصحي.
ففي عام 1812 اقترح طبيب محمد على باشا الإيطالي جيتاني بك ((Gaetani عليه أن يحد من دخول السفن الآتية من إستانبول التي أصيبت في ذلك العام بوباء الطاعون. وفي العام التالي انتشر الطاعون في مختلف نواحي الدلتا، ولذلك عبر الباشا عن رغبته في إقامة حجر صحي (كورنتينا) في الإسكندرية، يحجز فيه المسافرين والبحارة والسفن الذين يصلون من مناطق مصابة بالطاعون، على أساس أنه من المحتمل أن يكون المرض منتشر بينهم وذلك للمتابعة والعلاج .
وقد عرف الحجر الصحي في مصر في القرن التاسع عشر (بالكورنتينة) وهي من الكلمة الايطالية (Quarantina) بمعنى أربعين، حيث كان الواردون من الخارج الذين يشتبه في أصابتهم بأحد الأمراض المعدية يحجزون في الحجر الصحي أربعين يومًا حتى تثبت سلامتهم من الأمراض. ثم أنشئت المحاجر الصحية في الإسكندرية، والسويس ،ورشيد، ودمياط. وجدير بالذكر أن محمد على باشا كان أسبق من الدولة العثمانية في تطبيق نظام الحجر الصحي بمصر، إذ أنشىء مجلس الحجر الصحى فيها عام 1831 م، بينما أنشىء مجلس الحجر الصحى فى الدولة العثمانية عام 1838م.
وقد تغير الإشراف على نظام الحجر الصحي في مصر عدة مرات خلال القرن التاسع عشر، فعلى أثر انتشار الكوليرا في الإسكندرية سنة 1831م انتشارًا شديدا خشي محمد على باشا من أن يؤثر ذلك تأثيرا سلبياً على سمعة مصر وعلى تجارتها الخارجية، أراد محمد على باشا إنشاء هيئة ذات صبغة أجنبية موثوق بها يكون من اختصاصها تقرير ما تراه من الاحتياطات لمنع دخول الأوبئة، أسوة بما كان متبعًا في ذلك الوقت بالبلدان الأخرى، وبالفعل دعا محمد على الهيئات القنصلية للاجتماع في 18 أكتوبر سنة 1831م، وفي هذا الاجتماع تم تشكيل هيئة أطلق عليها "مجلس الصحة"، وتم انتخاب لجنة فرعية مكونة من خمس قناصل سميت "القومسيون القنصلي الصحي" مهمتها تقرير عدد أيام الحجر الصحي أو المراقبة لمنع دخول الأوبئة.
وفي عام 1835 شكلت لجنة أخرى للإشراف على الحجر الصحي سميت (بمصلحة الكورنتينة) كانت تحت إشراف القنصل الإنجليزي (كامبل)، والقنصل الروسي (دوهاميل)، وظلت كذلك حتى عام 1856 حيث اتحدت مصلحة الكورنتينة التي تختص بمنع دخول الأوبئة إلى البلاد مع مجلس الصحة الذي يختص بالشئون الصحية الداخلية في مجلس واحد سمي (مجلس الطب الخصوصي)، ولقد تم تغير اسمها في سبتمبر عام 1880 إلى (مجلس عموم الصحة المصري ومشورة الكورنتينات المختلطة بالإسكندرية)، ثم تحول الإشراف على الحجر الصحي إلى (مصلحة الصحة البحرية والكورنتينات) في ديسمبر 1880، وغير اسمها مرة أخرى إلى (مجلس الصحة البحرية والكورنتينات) بالإسكندرية وأصبح عمله مقصورًا على مسائل الحجر الصحي، بينما نقل مجلس عموم الصحة إلى القاهرة وأصبح مختصًا بجميع المسائل الصحية الداخلية للبلاد.
وقد عرفت مصر خلال القرن التاسع عشر اثنين من الأوبئة الفتاكة هما الكوليرا التي كانت انتشرت بشدة في أعوام 1831، 1848، 1865، 1883، والتى كانت غالبا ما تأتي إلى مصر مع الحجاج العائدين من الحجاز، أما وباء الطاعون فقد فتك بالمصريين خاصة في عام 1801 وعام 1835، بالإضافة إلى مرض الجدري الذي حرصت الحكومة المصرية على التطعيم ضده أجباريا.
وشهد القرن التاسع عشر أولى تجارب التعاون الدولي في مجال الصحة العامة فقد أقيمت عدة مؤتمرات صحية دولية لوضع أسس وقواعد الحجر الصحي لمنع انتشار الأوبئة بين دول العالم، ومن أهم هذه المؤتمرات مؤتمر باريس عامي 1853، 1859 ، ومؤتمر الأستانة 1866، ومؤتمر فيينا 1873، مؤتمر واشنطن 1881، مؤتمر روما 1885، مؤتمر فينيسيا 1892، وهكذا كان الحجر الصحى هو أحد مظاهر الحداثة التى شهدتها مصر خلال القرن التاسع عشر.