عاصم صبحي يكتب .......مصر تتحدث عن شعبها

عاصم صبحي يكتب .......مصر تتحدث عن شعبها
عاصم صبحي يكتب .......مصر تتحدث عن شعبها


و لمّا كنت بصدد تعيين موضوع مقالي الجديد غفوت في مضجعي ، و كان وقت الأصيل فإذا بآذان المغرب يوقظني ، فتحت عيناي فكانت لاتزال قائمة أمامي ، لكنها كانت قد صمتت و احتفظت علي وجهها بتلك الابتسامة المشرقة التي حدثتني بها ، ثم ذهبت و تلاشت شيئا فشيئا حتي تنبهت و استفقت مطمئنا هادئ البال ، عازم الأمر ، كيف لا و قد عينت موضوعي بناءاً علي كلام محدثتي و ما أفضت به إليّ في منامي .
لم يستغرق الوقت طويلا حتي كنت جالسًا علي مكتبي باسطًا أوراقي ، متناولاً قلمي ، فكتبت عنوان مقالي هذا ، ثم أخذت في البحث و استغرقت بعض الوقت في قراءة ما قيل و كتب عن شعب مصر علي مر عصوره المختلفة ، قرأت مقتطفات من هنا و هناك ، لهذا و ذاك ، و أعدت النظر فيما قرأت من قبل ، ثم عدت لمشهد منامي ، وجدته لوحة فنية ثرية بمعانيها ، عميقة في تفاصيلها ، للأسف لست برسام حتي أرسمها ، لكني سوف أطلق العنان لقلمي و مخيلتي في وصفها ، علّني أُقرب الصورة إلي ذهن القارئ .
لم تكن محدثتي في منامي سوي " مصر " في هيئة امرأة متوسطة العمر ، لم تتخذ من الابهار سوي طلتها ، فهي فائقة الجمال مفعمة بالنشاط و الحيوية ، طويلة ممشوقة القوام حوراء ، عريضة الجبين حوراء العينين ، مرفوعة الرأس أنفة ، يشرق وجهها بابتسامة خلابة أخاذة تسر الناظرين تأسر القلوب ، احترت في تفسير نظرتها ، وجدت في نظرتها تفائل في كل شئ و تشبث بحلم يبدو بعيد ، وجدت أيضا نظرة خوف و اشفاق ، مع لمحة حزن ، اختلط كل ذلك في نظرة تأملية ، فكانت عيناها ساحرتان جذابتان لا يخلوان من الدفء و الحنان .
ترتدي جلباب واسع فضفاض ذو لون أخضر ملكي ، لا تشوبه شائبة و لا يعيبه عيب ، و كان النيل منصتها التي تقف عليها شامخة ، كما كان طرحتها المسدلة خلفها ، و تاجها المرصع بالذهب و اللازورد و الفيروز و الزمرد و الزبرجد و اليشم ، و علي صدرها سنابل الذهب الأصفر ، و تبدو من خلفها البلد بأركانها كاملة واضحة تمام الوضوح علي ضفتي النهر الخالد في مشهد مهيب ، بدا و كأنها همت و نهضت و ارتقت منصتها الخالدة و من ورائها شعب عظيم دفاعًا عن أرض الأمن و الأمان ، عن خزائن الأرض و مهد الحضارات بكنوزها و أسرارها .
وقفت مشدوهاً أمام هذا الجلال و البهاء ، لم أحرك ساكنًا ، أومأت لي برأسها أن اقترب ، فدنوت منها و هممت أن أجلس بين يديها ، فأشارت بيدها أن لا أفعل فوقفت علي دنو منها ، فإذا بها و في صوت عذب عذوبة ماء نهرها الخالد و بنبرة لا تخلو من الحنو تقول :" هذا ليس وقت الجلوس " .
أومأت برأسي و لم أنبث ببنت شفة ، فارتسمت علي وجهها ابتسامة خفيفة علامة علي الرضا ثم استطردت قائلة :" إن العالم يقف اليوم علي قدم و ساق ، تتسارع الدول فيما بينها علّها تجد موضع قدم في المقدمة للفوز بالنصيب الأكبر " .
بدا علي وجهي علامات الاستفهام و كدت أن أستفسر إلا أنها استرسلت في حديثها مفسرة قائلة :" لم تكن الأرض يومًا دار سلام إلا ما شاء الله ، فهي دار عمل و شقاء و نصب ، و لمّا كان أول أوامر الله عز و جل في كتابه الحكيم " اقرأ " ، فإنّا إذًا قد أُمِرنا بالعمل علي تطبيق ما تعلمناه من القراءة " .
فصمتت و بدا علي وجهها العبوث شيئا فشيئا ، ثم التفتت بوجهها إلي الخلف و استغرقت في التأمل حتي كدت أشك أنها قد نسيت أمري ، ثم عادت و حدقت في عيناي و تنهدت تنهيدة تنم عن حزن عميق يكاد يجثم علي صدرها ، و أكاد أجزم أنني رأيت عينيها و قد ترقرق فيها الدمع ، ثم قالت :" انظر إلي هذه الأرض من خلفي " ، فنظرت و جُلت ببصري ، فسألتني :" ماذا تري ؟ " ، قلت بلا تفكير :" أري بلد عظيم و شعب أعظم " ، فارتسمت ابتسامة استنكار علي شفتيها و قالت : " بل بلد عظيم و شعب وخيم " .
صدمني الرد ، فأخذت أعيد النظر و قد بدت الدهشة علي وجهي ، و لايزال صدي الرد يتردد من حولي ، و بينما ساد الصمت أخذت أفكر فيما دعاها لمثل هذا القول ، و ما كان الصمت السائد إلا فرصة للتفكر منحتني إياها ، أمعنت النظر فأبصرت مكونات الحضارة المصرية بداية من الحضارة الفرعونية ثم اليونانية البطلمية ، ثم الرومانية ، و من بعدها الحضارة الإسلامية ، و تلك الأخيرة تشكلت في عدة عهود ، بداية من عهد الفتح علي يد عمرو بن العاص ، إلي العهد الفاطمي ، ثم الأيوبي ، وصولاً إلي العهد المملوكي ، آثار هنا و هناك جعلت من مصر البلد الفريد في مكوناته الحضارية بين مختلف بلدان الأرض ، أبصرت شعب اتسم بالطيبة و الود و التسامح و الترابط .
" أليست حضارة عظيمة أبهرت العالم ؟! " سألتني قاطعة فترة الصمت و التفكر ، قلت :" بلي " دون تفكير ، و قبل أن أعطي انطباعي عن الشعب قاطعتني قائلة :" و طيبة شعبها الزائدة المفرطة جعلت منه شعب خانع ، ارتضي الذل و المهانة و ألفه لفترات طويلة في مسيرته عبر العصور " ، هنا قاطعتها قائلاً :" لكن أليست هذه الآثار المتنوعة دليل علي عظمة هذا الشعب ؟! " ، تنهدت و ساد الصمت من جديد شعرت خلاله أن سؤالي هذا أتي ساذجًا ، ثم ربتت علي كتفي و قالت :" أو ليست هذه الآثار دليل علي خضوعه و خنوعه ؟! أو ليست هذه الآثار إلا تخليدًا أو تعظيمًا لكل حاكم جلس علي عرشي ؟! ، كم من كنوز و ثروات بددت و نهبت تحت مرأي و مسمع شعبي العظيم ؟! ، كم من ملك و حاكم سكن و تزين و أسرف من كنوزي و ثرواتي ؟! " .
لزمت الصمت مشدوهاً محملقًا في طول البلاد و عرضها من خلفها ، ثم حولت نظري نحوها وجدتها تنظر و تحملق فيّ بشفقة و حنو ثم قالت :" قل لي لما أتي إليّ كل محال غاصب مستعمر ، أليس طمعاً في طيبة و سذاجة هذا الشعب و في ثرواته ؟ " ، رفعت عيناي ناظرًا إليها و قلت لها مستسلمًا :" بلي !! " .
و يبدو أنها رفقت بحالي فقالت :" قليل من مد يده و صافح الشعب و عمل علي علو شأن العباد قبل البلاد ، قليل من فهم طبيعة الشعب و عمل علي الإستقواء به لا بكنوزه و ثرواته ، قليل من فهم أن قوة مصر تكمن في عقول الكثير من أبنائها " .
خارت قواي الذهنية و استسلم عقلي ، و شعرت و كأن الأرض تترنح بي ، فأمسكت بيدي و ضغطت عليها بكفيها برفق ، شعرت خلالها بالقوة تسري في عروقي و بين جنباتي ، فابتسمت و قلت :" و ماذا الآن ؟! " .
قالت في ثقة و حزم :" الآن أصبحت أنا الجائزة الكبري التي يسعي الكل للفوز بها ، أو علي الأقل اقتسامها ، انظر حولك و مد بصرك سوف تري القريب قبل الغريب يسعي لإنهاكي ، دقق البصر في التفاصيل سوف تري قوي خفية تعمل منذ أمد علي اخضاعي للفوز بي ، و ليكن في علمك أنها قد أوشكت ، لكن الوقت لم يمر بعد فمازال هناك أمل كبير في صحوة شعبية يقودها عقول مستنيرة واعية واعدة ، فلم أكن يومًا بلد عقيم ، فأنا ولادة و جاهل من يعتقد غير ذلك ، عليكم بالقراءة يا بني ثم بالعمل و المثابرة ، و يكفيك قول الله عز و جل في كتابه الكريم الذي شرفني بذكري فيه ، اقرأ في سورة آل عمران الآيتين ١٣٩/١٤٠ (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) .
هدأت نفسي و سكنت خلجاتي ، و أخذت أنظر إليها و قد ارتسمت علي شفتيها ابتسامة رضا و ثقة و شموخ و أمل .

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

التالى أحمد ناجي يكتب : مراحل إدارة الأزمات والكوارث

 
Get new posts by email: