بقلم الدكتور - محسن محمد معالي
لَقَدْ شَرَّفَتنِي مَجَلَّةُ إسكندَرِيَّةِ بِأَنْ طَلَبَتْ عَرْضَ مُؤَلَّفَاتِي مِنْ خِلَالِ صَفَحَاتِهَا ، وَلمَّا كَانَتْ صَفَحَاتُهَا تُعَدُّ مِنبَرًا مُتَمَيِّزًا، فَلمْ أَتَرَدَّدْ، وَقَبِلْتُ عَلَى الفَورِ لِمَا تَتَمَتَّعُ بِهِ المَجَلَّةِ مِنْ سُمْعََةٍ طَيِبةٍ، وَلِمَا تَبْذُلُهُ المَجَلَّةُ مِنْ جَهْدٍ مَشكُورٍ فِي خِدْمَةِ القَارِئِ العَرَبيِّ، وصَونًا للغَةِ الضَّادِ لُغَةِ القُرآنِ الكَرِيمِ .
وَمِنْ ثَمَّ فإِنَّنِي بإذنْ اللهِ تَعَالى سَوفَ أَعرِضُ مؤلفاتي في سلسلة كل يوم جمعة نقدِّمُ كتَابًا ونبدَاُ اليومَ بِكِتَابِ المُشتَقَات وَدَلَالَاتهَا في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، فَهَذَا الكِتَابُ في الأَصْلِ رِسَالَةُ دكتوراه اجْتَزْتُهَا بِمرتَبَةِ الشَّرَفِ الأُولَى، ثُمَ نُولي بَعْدَ ذَلِكَ بِعَرْضِ أحَدِ الكُتُبِ كُلِّ يومِ جُمْعَةِ ، وَنَسألُ اللهَ التَّوْفِيقَ وَالسَّدَادَ.
المُشْتَقَّاتُ وَدَلالاتُهَا في اللغَةِ العَرَبِيةِ
هَذِهِ دِرَاسَةُ تُعْنَى بِتَنَاوُلِ المُشْتَقَّاتِ ، وَتَطِبِيقِهَا عَلَى سُورَةِ البَقَرَةِ ، لِتَكُونَ مَوْضُوعَ هَذِهِ الدِّرَاسَةِ ، وَمَادَتِهَا حَتَّى نَتَمَكَّنَ مِنْ مَعْرَفَةِ خَصَائِصِ هَذِهِ المُشْتَقَّاتِ مِنْ وَاقِعِ نَصِّ لُغَويِّ استُعْمِلتْ فِيهِ ، وَهُوَ نَصٌّ لا يَمْكِنُ الطَّعْنُ في فَصَاحَتِهِ .
وَقَدْ حَاوَلْتُ في هَذَا الكِتَابِ أَنْ أُُلْقِيَ الضَّوْءَ عَلَي المُشْتَقَّاتِ وَدَلالاتِهَا في اللغَةِ العَرَبِيةِ بِشَكْلِ عَامٍ ، وَعَلَى سُورَةِ البقَرَةِ ، بِشَكْلٍ خَاصٍ ، لِبَيَانِ مَدَى أَهَمِّيَتِهَا وَتَجْلِيةِ صِيَغِهَا التي تَحْتَاجُ لِمَنْ يَدْرُسُهَا ، وَيُحَلِّلُهَا في إِطَارِ السُّورَةِ ؛ لاحْتِوَائِهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الصِّيَغِ الصَّرْفِيَّةِ المُشْتَرَكَةِ ، وَمنْ ثَمَّ الوصُولُ إِلى نَتَائِجَ تُعِينُ عَلَى حُسْنِ فَهْمِ النَّصِ ، وَتَكْشِفُ كَثِيرًا مِنْ نَوَاحِي الإِبْدَاعِ في أُسْلُوبِ القُرْآنِ الكَرِيمِ ، وَإِعْجَازَهِ ، وَالرَّبْطِ بَيْنَ الدَّلالَةِ المعْجَمِيَّةِ ، وَدَلالَةِ السِّيَاقِ ، يُؤَدِّي بِنَا إِلى نَتَائِجَ مُهِمَّةِ ، وَرُؤْيَةِ أَفْضَلِ للنَّصِ، وَهَذِهِ دِرَاسَةُ تَطْبِيْقِيَّةِ عَلَى (سُورَةِ البَقَرَةِ ) حَرَصْتُ عَلَى تَحْلِيلِ الصِّيَغِ الصَّرْفِيَةِ للمُشْتَقَّاتِ الوَارِدَةِ في السُّورَةِ ، منْ حَيْثُ البنَاءِ وَالدَّلالَةِ ، وَتَنَاوَلتُ الصِّيغَ الصَّـرفِيَّةَ وَوَظَائِفَهَا ، وَتُوضِيحَ دَلالاتها ، وَبِيَانَ أَثَرِهَا في تَحْدِيدِ الدَّلالَةِ ، وَأَثَرِ السِّيَاقِ في تَحْدِيدِ المَعْنَى .
وَتَنَاوَلْتُ المَبَانِيَ الصَّرْفِيَّةَ مِنْ حَيْثُ التَّجَرُّدِ وَمَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنَ الزِّيَادَةِ بِاللوَاصِقِ أَوْ الحَشْوِ أَوْ اللوَاحِقِ، فَتُؤَدِّي مَعَانٍ صَرْفِيَّةَ جَدِيدَةَ، وَمَا يُنْتُجُ عَنْهَا مِنْ مُشْتَقَّاتِ، بَيْدَ أَنَّهُ يُمْكِنُ القَولُ بَأَنَّ الحُكْمَ عَلَى الصِّيغَةِ يُرَدُّ للسِّيَاقِ الذِي تَرِدُ فيهِ وَوُجُودُ قَرِينَةِ دَالَةِ عَلَى المَقْصُودِ لِمَنْعِ اللبْسِ ، وَنُلاحِظُ أَنَّ : هُنَاكَ صِيَغًا مُشْتَرَكَةً تُحَدِّدُهَا القَرَائِنُ وِيُمَيِّزُهَا السَّيَاقُ.
وَبَيَّنْتُ أَهَمِيَّةَ اتِّخَاذِ الجَذْرِ أَسَاسًا صَالِحًا في الاشْتِقَاقِ ، لأَنَّ الجَذْرَ هُوَ الأَصْلُ المُتَوَهَّمُ الذِي اشْتُقَتْ مِنْهُ الصِّيغُ المُخْتَلِفَةُ في اللغَةِ ؛ فَالجَذْرُ يُشَكِّلُ المَعْنَى الأَسَاسِيِّ للصِّيغَةِ ، وَأَنَّ الأَصْلَ في الكَلِمَاتِ الاشْتِقَاقِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مِنْ ثَلاثَةِ حُرُوفٍ مُرَتَّبَةٍ بِحَسَبِ الفَاءِ وَالعَيْنِ وَاللامِ من (فعل ) ثُمَّ تَأْتِي اللوَاصِقُ وَاللوَاحِقُ ، فَتُعْطِينَا المَعَانِي الإِضَافِيةَ للصِّيغِ المُخْتَلِفَةِ ، وَمِنْ ثَمَّ يَتَبَيِّنُ أَثَرَهَا في دَلالَةِ الصِّيَغِ ، وَبَيَّنْتُ أَنْ هُنَاكَ صِيَغًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ عَدَدٍ من هَذِهِ الصِّفَاتِ ، وَقُدْ يُسْتَغْنَى بِصِيَغٍ عَنْ أُخْرَى ، فَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ المُسْتَقْبَلِ بِالمَاضِي ، أَوْ بِالمَاضِي عَنِ المُسْتَقْبَلِ .
وَبَيَّنْتُ أَثَرَ السِّيَاقِ في تَحْدِيدِ الدَّلالَةِ ، وَأَنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الوُقُوفِ عَلَى السِّيَاقِ اللغَوِيِّ ، وَغَيْرِ اللغَوِيِّ : القَرَائِنِ الحَاليَةِ ، وَأَسْبَابِ النُزولِ التي تُعِينُ في تَحْدِيدِ دَلالَةِ المُشْتَقِّ، بَيَّنْتُ مَوَاضِعَ تَمَّ تَخْصِيصُ الدَّلالَةِ فِيهَا ، خَاصَةً لِبَعْضِ الأَلفَاظِ الإِسْلامِيَّةِ بيَّنْتُ تَغَيُّرَ دَلالاتِ بَعْضِ الكَلِمَاتِ ، وَاسْتِحْدَاثِ أُخْرَى ، لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً مِنْ قَبْلُ ، مِنْ جُذُورٍ قَدِيمَةٍ .
وَبَيَّنْتُ أَنَّ بَعْضَ الدَّلالاتِ تَوَارَتْ ، وَاقْتَصَرَتْ عَلَى إِحْدَى الدَّلالاتِ دُونَ غَيْرِهَا ، بَيَّنْتُ أَنَّ هُنَاكَ صِيَغًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ عَدَدٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ ، وَلَهَا أَكْثَرُ مِنْ دَلالَةِ ، تَحْتَاجُ إِلى قَرَائِنِ لِتَحدِيدِهَا ، وَأَنَّ قَرَائِنَ السِّيَاقِ هِيَ التي تُرَجِحُ صِيغَةً دُونَ أُخْرَى ، وَذَلِكَ مِنْ خِلالِ عَرْضِ نَمَاذِجِ مُخْتَلِفَةِ الدَّلالَـةِ للمُشْتَقِّ الوَاحِدِ في السِّيَاقَاتِ المُتَعَدِّدَةِ ، أَوْ المُحْتَمَلَةِ .
بَيَّنْتُ عَدَدًا مِنْ الكَلِمَاتِ التي تَدْخُلُ في إِطَارِ تَعَدُّدِ المَعْنَى بِتَعَدُّدِ دَلالَةِ السِّيَاقِ ، وَأَنَّ الاخْتِلافَ في فَهْمِ دَلالَةِ المُشْتَقِّ قَدْ يُؤَدِّي إِلى اخْتِلافَ التَّفَاسِيرِ مِمَّا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اخْتِلافٌ في بَعْضِ الأَحْكَامِ الفِقْهِيَّةِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلى اخْتِلافِ ثَقَافَاتِ المُفَسْرِينَ وَاسْتِيعَابِهِمْ للشَّوَاهِدِ اللُّغَوِيَّةِ ، وَأَخْذِهِمْ
وَبَعْد فَإِنْ كَانَ ثَمَّةُ جَدِيدٍ في هَذَا البَحْثِ ، فَإِنَّنِي أَسْتَطيعُ القَوْلَ بِأَنَّهُ " دِرَاسَةُ تَطَبِيقِيَّةُ " اشْتَمَلَتْ عَلَى جَانِبَيْنِ مِنَ التَّحْلِيلِ: الصَّرْفيِّ وَالدَّلالِيِّ ، وَنَتَجَ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ الصِّيَغِ المُشْتَرَكَةِ.