المناهي اللفظية في اللغة العربية المعاصرة
(دراسة تأصيلية )
بقلم الدكتور/محسن محمد معالي
المَنَاهِي اللَّفْظِيَّةُ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ المُعَاصِرَةِ .
تَنَاوَلْتُ فِي هَذَا الكِتَابِ عَدَدًا يَسِيرًا مِنَ الأَلْفَاظِ الشَّائِعَةِ في الاستِعْمَالِ اليَوْمِي وَالتِي قَدْ يُخْطِئُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ في نُطْقِهَا أَوِ استِعْمَالهَا في غَيرِ مَوَاضِعِهَا التِّي يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِيهَا ، فَلِكُلِّ لَفْظَةٍ سِيَاقُهَا الذِي تُسْتَخْدَمُ فِيهِ بَلْ إِنْ كَثِيرًا مِنَ الأَلْفَاظِ تَتَغَيَّرُ دَلَالَتُهَا ، وَتَكتَسِبُ دَلَالَةً أُخْرَى تَبَعًّا لِدَلالَةِ السِّيَاقِ .
وَذَلكَ مِنْ وَاقِعِ القِيَاسِ اللُّغَويِّ الذِي استِخْدَمَهُ العَرَبُ في سَعْيهمْ للحِفَاظِ عَلَى اللُّغَةِ ، وَكَلِمَةُ ( القِيَاسُ ) في أصْلِ مَعْنَاهَا اللغَويِّ (التَّقْديرُ) ، فَقد ذَكَرَ صَاحِبُ اللسَانِ:" قَاسَ الشَّيءَ يَقِيسُهُ، وَقَيَّسَهُ ، إِذَا قَدَّرَهُ " وَالمِقْيَاسُ : المِقْدَارُ ، وَالمَقِيْاسُ : مَا قِيْسَ بِهِ ، وَتَقُولُ قِسْ هَذَا بِذَاكَ قِيَاسًا ، وَقِسْتُ الشَّيءَ بالشَّيْءِ : قَدَّرْتُهُ عَلَى مِثَالِهِ .
وَقَدْ يُقَالُ عَنهُ مِعْيَارٌ ، وَالمِعْيَارُ مِنَ المِكَاييلِ : مَا عُيِّرَ ، قَالَ اللَّيْثُ : العِيَارُ مَا عَايَرْتَ بِهِ المِكَاييلِ ، فَالعِيَارُ صَحِيحٌ تَامٌّ وَافٍ ، تَقُولُ : عَايَرْتَ بِهِ أَي سَوَّيْتُه وَهُوَ العِيَارُ وَالمِعْيَارُ ، فَيُقَالُ اللُّغَةُ المِعْيَارِيَّةُ .
وَقَد يُعنَى بِالقِيَاسِ إِلحاقُ صِيغَةِ بِنَظيرِهَا ، أَوْ تَرْكِيبِ لُغَوِيِّ بِنَظِيرِهِ في حُكْمٍ ثَبَتَ للنَظِيرِ بِسَببِ ورُودِهِ في اللُّغَةِ عَلَى وَجْهِ الشُّيُوعِ وَالكَثْرَةِ ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ مُصْطَلَحَ القِيَاسِ يَعْنِي الأَصْلُ ، أَوِ الحُكْمُ ، أَوِ القَاعِدَةُ ، وَصَارَ القِيَاسُ يَعْتَمِدُ عَلَى النَّظَرِ في الأَسَالِيبِ العَرَبِيَّةِ الفَصْيحَةِ المَوثُوقِ بِصِحَّتِهَا وَفَصَاحَتِهَا .
بَيْدَ أَنَّنَا نَتَسَاءَلُ عَنِ الفَيْصَلِ الذِي يَحْتَكِمُ المَرْءُ إِليهِ في كَلامِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُجتَمَعِ الذِي قَدْ يَنظُرُ إِلى اسْتِعمَالِهِ بِاعْتِبَارِهِ خَطَأً في بَعضِ الأحيَانِ .
وَلا شَكَّ إَنَّ لِكُلِّ لُغَةٍ مُسْتَوهَا الصَّوابيَّ الخَاصَ بِهَا ، والمُجتَمَعُ هُوَ الذِي يَحْرِصُ عَلَى هَذَا المُسْتَوَى الصَّوَابيِّ ، وَمِنْ ثَمَّ يُصْبِحُ كُلُّ شَخْصٍ في المُجتَمَعِ خَاضِعًا لَهُ .
بَيدَ أَنَّ هَذَا المِقيَاسَ الصَّوَابيَّ لا يَعْنِي الجُمُودَ ، ذَلِكَ أَنَّ التَّطَوُّرَ الصَّوتيَّ وَالصَّرفيَّ وَالنَّحْويَّ وَالمُعْجَمِيَّ وَالدَّلاليَّ في اللُّغَةِ لِيَستَتبِعَ ذَلِكَ تَغَيُّرًا فِي المُسْتَوَى الصَّوَابيِّ مِنَ النَّاحِيَّةِ التَّارِيخيَّةِ ؛ فَمَا كَانَ صَوَابًا في المَاضِي يُصْبِحُ خَطَأَ في الوَقتِ الحَاضِرِ .
وبَعْدُ ، فَالمُسْتَوَى الصَّوَابيُّ مِعْيَارٌ لُغَويٌّ يَرْضَى عَنِ الصَّوَابِ ، ويَرْفُضُ الخَطَأَ في الاسْتِعمَالِ ، وَهُوَ كَالصَّوغِ القِيَاسِيِّ ، لا يُمكِنُ النَّظَرُ إِليهِ بِاعْتِبَارِهِ فِكْرَةً يَسْتَعِنُ البَاحِثُ بِوَاسِطتِهَا في تَحْدِيدِ الصَّوَابِ وَالخَطَأ اللُغَويينِ ؛ وَإِنَّما هُوَ مِقيَاسُ اجْتِمَاعِيُّ يَفْرِضُهُ المُجتَمَعُ اللغَويُّ عَلَى الأفْرَادِ ، وَيَرْجِعُ الأفْرَادُ إِليهِ عِنْدَ الاحتِكَامِ في الاسْتِعْمَالِ .
فَالمِقيَاسُ الصَّوَابيُّ مِعْيَارٌ اجتِمَاعيُّ يَنْظُرُ إِليهِ الفَردُ بِشَيءٍ مِنَ المَهَابَةِ وَالاحتِرَامِ وَيَحرُسُهُ المُجتَمَعُ بِالنَّقْدِ وَالتَّوْجِيهِ . لِذَلِكَ جَاءَ كِتَابِي هَذَا للحِفَاظِ عَلَى اللُّغَةِ .
مَنْهَجُ الكِتَابِ
التَزَمْتُ فِي ذَلِكَ مَنْهَجًا يَسِيرًا يُيَسِّرُ للقَارِئِ مُتَابَعَةَ القِرَاءَةِ ، وَفقَ ترتِيبًا هِجَائِيًا بَدْءً مِنَ الهَمزَةِ إِلى اليَاءِ ، وَسَنَعْرِضُ لِنَمَاذِجِ تُبَيِّنُ مَا قُمْتُ بِهِ في الكِتَابِ.
(أ) ( أَثَّرَ - إِربًا- أخر- أدَّى - أزف - إن ) ، فَمثَلًا :
قُلْ: أثَّرْتُ فِيهِ ، وَأثَّرَ بِهِ وَلاَ تَقُلْ : أثَّرَ عَلَيهِ لأَنَّ الفِعْلَ ( أثَّرَ )
يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الجَرِّ البَاءِ ، أثَّرَ بِهِ ، تَأثَّرْتُ بِعَمَلِهِ ، وَيَتَعَدَّى بِحَرْفِ الجَرِّ ( في ) نَحْو : قَوْلَ الشَّاعِرُ :( 1 )
أَشْكُو مِنَ الهَجرِ في سِرٍّ وَفي عَلَنٍ شَكوى تُؤَثِّرُ في صَلْدٍ مِنَ الحَجَرِ
(ب) بِئْر ـ بَأْس ـ بَتَّ ـ بَدَل ـ بعث ـ بعض ـ بغى ـ بهر ـ بين.
قُلْ : هَذِهِ بِئْرٌ عَمِيقَةٌ ، وَلاتَقُلْ : هَذَا بِئْرٌ عَمَيقٌ ؛ لأَنَّ كَلِمَةَ بِئْرٍ مُؤَنَّثَةٌ ، قُلْ هَذِهِ بئرٌ مَعْرُوفَةٌ للنَّاسِ ، وَقَالَ تَعَالى : ] وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مُشَيَّدٍ [( 45: الحج )
وَجَمْعُ بِئْر : أَبؤر ، وَالكَثِيرُ : آبَارُ ، وَتُصَغَّرُ عَلَى بُؤَيْرُةٍ .
( بين ) قُلْ اسْتَبَانَ الأَمرُ استِبَانَةً ، وَلا تَقُلْ : استَبَانَ الأمرُ اسْتِبْيَانًا ؛ لأَنَّ مَصْدَرَ الفِعْلِ : ( اسْتَبَانَ ) ، هُوَ ( اسْتِبَانَةُ ) مِثْلُ : اسْتَقَامَ اسْتِقَامَةَ ، واستَعَانَ : استِعَانةً وَاستَغَاثَ المَظْلُومُ استِغَاثَةً ، قَالَ الشَّاعِرُ:(2)
وَاسْتَكدَّتْ حَسِيرَ شُكْرِي فَشُكْرِي يَسْتَغِيثُ استِغَاثَةَ المَجْهُودِ
وَتَقُولُ : مِنَ الأَسَالِيبِ العِلْمِيَّةِ استِخْدَمُ الاستِبَانَةِ لجمْعِ البَيَانَاتِ .
يَستَبينُ العَالِمُ المَاهرُ العُلُومَ اسْتِبَانَةَ الخَبيرِ ، قَالَ المُثَقَّبُ العَبْدِيُّ : ( 1 )
فلَمَّا استَبانَ أَنَّها آنِسِيَّةٌ وَصَدَّقَ ظَنّاً بَعدَ مَا كَانَ كَذَّبَا
وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمثَالَ للنَّاسِ ، ليَزْدَادُوا اسْتِبَانَةَ الغَرَضِ مِنَ الآيَاتِ .
وَ تَقُولُ : قَلْبُ المُؤْمِنِ أَشَدّءُ اسْتِبَانَةً للحَقِّ ، قَالَ تَعَالى :
] وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلتَسْتَبِينَ سَبِيلَ المُجْرِمِينَ [(55:الأنعام)
من إصدار مؤسسة حورس الدولية للطباعة والنشر والتوزيع
تجدوها بحورس ستور(٤٧شارع مصطفي كامل بجوار كلية التربية الرياضية بنات بوكلي)